حسين الرواشدة يكتب: متهمون بالدفاع عن بلدهم

حسين الرواشدة يكتب: متهمون بالدفاع عن بلدهم

أيهما أولى بالإدانة والتأنيب ، الذين يشهرون إساءاتهم لبلدنا، ويجرحون رموزه ، ويغردون خارج السرب الوطني، ويتقمصون قضايا الكون ثم يهربون من قضايانا، ويسخرون من إنجازاتنا وتضحياتنا، أم الذين تستفزهم هذه المواقف والخطابات والاساءات فيتحركون للدفاع عن دولتهم ، والانتصار لتاريخهم ، والاعتزاز بمواقفهم ، والالتصاق بأرضهم وهويتهم ؟

وفق أي منطق سليم تبدو الإجابة معروفة ؛ لا أحد يقبل ، في أي دولة بالعالم ، أن يصمت عن إساءة تمس بلده ، الكرامة الشخصية جزء لا يتجزأ عن الكرامة الوطنية، الأسوأ حين تصدر الإساءة من داخل الدائرة الوطنية، وتستند إلى حسابات سياسية انتهازية، أو حين تصبح جزءا من سرديات تاريخية تتعمق أكثر بين الأجيال ، فتشكل وعيهم ، وتحدد حركتهم ، عندئذ يبدو استهجان الرد عليها، أو اتهام أصحابه بالشوفينية والتعصب ، أو بزعزعة الوحدة الوطنية ، سلوكا غير مفهوم إلا في إطار الانتهازية السياسية ، أو الإستهانة بالذات الوطنية، أو العجز عن فعل الواجب ، والاستسلام للأمر الواقع.

في بلدنا تبدو الصورة ،للأسف ،مقلوبة ، أنت متهم بالدفاع عن الأردن ، وتحتاج دائما إلى تبرير مواقفك، ومحاولة إقناع الآخرين -حتى من أبناء جلدتك- أنك تقوم بأقل الواجب، ولا تقصد أبدا الانعزال عن محيطك العربي ودائرتك الإنسانية والحضارية ، ولا التنازل عن مواقفك في دعم قضايا أمتك وأشقائك ، ولا التشكيك بمن يعيش معك داخل إطار الوطن الواحد ،مهما كان جنسهم أو دينهم أو عرقهم، حين تقول لهم : لا أدافع عن حكومات ولا سياسات ولا قرارات رسمية، وإنما عن دولة ومؤسسات ، تاريخ وهوية ، مواقف وإنجازات ، ياتيك الرد سريعا : أنت “سحّيج” ، أو باحث عن امتيازات ، أو كاتب مأجور.

فرق كبير بين حرية الرأي والتعبير ، وبين أيدولوجيا التجريح والإساءة ، أسوأ ما حصل في بلدنا هو استقواء هذه الايديولوجيا التي تحاول أن تفرض وصايتها علينا ، ولا تحترم إلا ما تؤمن به ، وما تبايعَ أصحابُها عليه ، فرق كبير ،أيضا ، بين أن يكون لك قضية مشروعة، تدافع عنها وتستقطب كل الناس للاستطفاف معك من أجلها ، وبين أن توظف هذه القضية لحساباتك الشخصية ، أو تستخدمها للإساءة للآخرين الذين يتقاسمون معك العيش والهم ، فرق كبير ،ثالثا ، بين أن تعتقد أن الأردن هو قضيتك الأولى،، فتعتز بهويته وبالانتماء إليه ، وتحترم مواقفه ، وتقدر خياراته واضطراراته ، وبين أن تراه مجرد دار للإقامة، أو أولوية ثانية ، أو محطة قطار ، أو ساحة استنفار لجبهات أخرى.

لابد أن ندرك ، نحن الأردنيين، ثم أن نتوافق ، على أن هذا البلد بلدنا جميعا، وأن هذه الدولة هي منجزنا كلنا بلا استثناء ، الأردنيون ملّة وطنية واحدة ، تجمعهم هوية وطنية (نقطة )، لديهم تاريخ ممتد في الزمان والمكان، وهم جزء من أم عظيمة، قضاياها قضاياهم ، ومستقبلهم مرتبط بمصيرها ، لكن من حقهم أن يكون الأردن أولا في حساباتهم ، وأن تكون الدولة الأردنية مصدراً لاعتزازهم ،كما أن من حقهم أن يقولوا : كفى، لكل الذين ينظرون إليهم من ثقب باب مصالحهم ، وربما أحقادهم وجحودهم، من حقهم أن يشهروا عتبهم وغضبهم على كل من خذلهم أو إساء إليهم .

ما أجمل الأردنيين ، وما اوسع صدورهم ، “فلهم نفس تعاف (الغدر) حتى كأنه / هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر.. “.

سميح المعايطة يكتب: العالم أمام مسؤولياته

سميح المعايطة يكتب: العالم أمام مسؤولياته

غدا يستقبل الأردن قادةً ومسؤولين من دول العالم في مؤتمر دعا إليه الأردن لصناعة تعامل منهجي دولي مع الأبعاد الإنسانية للعدوان على غزة والذي دخل شهره التاسع دون نهاية معلومة له.
المبادرة الأردنية بعقد المؤتمر الدولي لاستدامة الدعم الإنساني لغزة خطوة أردنية لتنظيم جهد العالم لمعالجة الآثار الإنسانية للعدوان على غزة، هذه الآثار التي تزداد يوما بعد يوم، وسيكتشف العالم بعد توقف العدوان أبعادا كثيرة للمأساة الإنسانية والتي ستتجاوز توفير الغذاء والدواء إلى كل ما يضمن استمرار الحياة هناك.
وإذا كانت إسرائيل في كل تفاصيل عدوانها على الشعب الفلسطيني تريد تحويل غزة إلى جغرافيا طاردة لأهلها، فإن المبادرة الأردنية تسعى لتشكيل حالة دولية إنسانية تحفظ لغزة قدرتها لتبقى حاضنة لأهلها.
والكارثة الإنسانية في غزة ليست فقط تأمين الطعام والماء، على أهمية هذا الأمر، بل هناك الكثير من الجوانب التي تستحق إدارة وجهدا  وتمويلا من دول العالم لمعالجتها، بعضها يتعلق بالبنية التحتية التي تضمن حياة آمنة من الأوبئة والأمراض التي تزداد مع أجواء الصيف ونقص المياه وتراكم النفايات التي تمثل أزمة منفصلة لغياب طرق التعامل معها وتزايدها بين خيم النازحين والبيوت.
الكارثة الإنسانية في غزة تفاصيلها كثيرة ومخاطرها تحرم الأطفال والنساء والرجال من حياة آمنة وطبيعية، بل إنها تنذر بأخطار على الصحة والحياة لسنوات طويلة قادمة في أكثر من مجال. 
الأردن الذي بادر إلى الدعوة لهذا المؤتمر الدولي، هو الذي بادر إلى فكرة الإنزالات الجوية عندما كان التعثر في التزويد البري، وعندما كان شمال غزة يعاني من نقص حاد في الغذاء، وهو الأردن الذي كان ضاغطا على دول العالم المؤثرة من أجل السماح بإدخال المساعدات بعدما كانت كل المعابر مغلقة، وعمل مع كل الدول الشقيقة والصديقة على إيجاد جسر بري إلى غزة عن طريق الأردن ثم الضفة الغربية، وكان وما زال يقدم كل جهد ممكن في هذا المجال.
الجهد الإنساني جزء من الجهد الأردني الأشمل في مساندة أهل غزة سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا، وننتظر من العالم الذي عجز عن وقف العدوان عسكريا أن يقدم جهدا إنسانيا منظما وفاعلا تجاه الإنسان الفلسطيني في غزة.

حسين الرواشدة يكتب: أربعة عناوين تعكر مزاج الأردنيين

حسين الرواشدة يكتب: أربعة عناوين تعكر مزاج الأردنيين

ماذا يفتقد الأردنيون، ومم يشتكون؟ استدعاء هذا السؤال ضروري لأسباب مختلفة، أهمها أننا أحوج ما نكون اليوم لـ»لمّ الشمل الوطني»، ليس فقط لعبور هذه المرحلة الصعبة، ومواجهة استحقاقاتها بجبهة أردنية موحدة، وإنما لتدشين مئوية جديدة، ترسخ صمود الدولة ومنعتها، وتعيد للمجتمع عافيته، وتطمئن الأردنيين على مستقبلهم.

حين ندقق مصفوفة الإجابات، على اختلافها، نكتشف أن وراء تعكير مزاج الأردنيين أربعة عناوين، تشكل قواسم مشتركة بينهم، او أنها تحرك ما بداخلهم من إحساس بالحاجة والانتقاد، وتدفعهم إلى الشكوى والتذمر، ورؤية صورة بلدهم على غير حقيقتها، وتجعلهم -أحيانا كثيرة – يميلون إلى الاستغراق بالإحباط والسوداوية، أو يفكرون، لا سيما الشباب، بالهجرة، أو يهربون من مواجهة واقعهم باعتباره «كومة خراب» لا أمل فيه بالإصلاح، دون النظر لأي إنجازات مهما كانت كبيرة.

العنوان الأول : غياب «القضية الأردنية»، أقصد الإيمان الراسخ بأن البلد قضيتهم الأولى، وأن انتماءهم وتعلقهم به ليس مجرد حالة شعورية، وإنما وجودية وعقلية أيضا، بعض الأردنيين هنا انطبعوا، لأسباب عديدة، على ترتيب أولويات لهم خارج إطارهم الوطني، فهم عروبيون اكثر من أن يكونوا أردنيين، لا انتقص، هنا، من الانتماء لدائرتي العروبة والدين، ‏ولا من الالتصاق بالقضية الأبرز لديهم، وهي فلسطين، وإنما أشير إلى أن غياب المشروع الوطني كأولوية، تسبب بكثير من الانفصالات والتصدعات التي مسّت الهوية الوطنية و امتداداتها.

العنوان الثاني: تراجع منسوب العدالة، إحساس بعض الأردنيين، هنا، أنهم ليسوا مواطنين متساويين أمام موازين العدالة الوظيفية والاعتبارية، ولّد لديهم مزيجا من القهر والشعور بعدم الرضا، ثم ألجأهم لملاذات أخرى للحماية والتحصن، ‏ كما أفرز من المشكلات التي يواجهونها كالفقر والبطالة أسوأ ما فيهم، بدل أن تشكل حوافز لهم للاعتماد على انفسهم، ومواجهة هذه المشكلات بالرضا ومزيد من العمل، مثلما فعل آباؤهم وأجدادهم الذين عاشوا ظروفا أقسى من ظروفهم.

العنوان الثالث اتساع فجوة الثقة بين الأردنيين ومؤسساتهم العامة، وفيما بينهم ‏وبأنفسهم أيضا، غياب الثقة هذا له اسبابه المتعددة، والمتعلقة بالأداء العام للإدارة العامة، والمجتمع معا، لكن نتائجه صبّت باتجاه تعطيل ثلثي الأردنيين عن المشاركة بالعمل العام، وانطوائهم على أنفسهم، وعدم قدرتهم على إنتاج مجتمع يمتلك الحد اللازم من العافية والحيوية، عطالة المجتمع، هنا، أثرت بشكل كبير على حركة مشروعات الدولة بمساراتها السياسية والاقتصادية، وحولت الأردنيين إلى مجاميع من المتفرجين أو الغاضبين.

العنوان الرابع : تراجع كفاءة المؤسسات، أقصد هنا المؤسسات العامة، ومؤسسات المجتمع المدني. الأردنيون يفتقدون المؤسسة الفاعلة. يكفي أن ننتبه لصورة مجلس النواب مثلا، او صورة النخب والاحزاب والنقابات، في عيون المواطن لنفهم ما جرى، هذه الكفاءة المؤسسية كانت فيما مضى تمنح الأردنيين ضمانة لاعتدال حركة الدولة بالاتجاه الصحيح، و انتصاب موازين المساءلة والمحاسبة، وعدم توسع النفوذ الفردي والطبقي والمالي، على حساب القيم والمصالح العامة، لكنها الآن لا تفعل ذلك بالشكل الصحيح.

أعرف تماما أن ثمة عناوين أخرى في ذهن القارئ الكريم تجعله يعاني من افتقاد محفزات الهمة الوطنية، والأمل بوجود مستقبل أفضل، لكن استدعاء هذه النقاط الأربع، ومواجهتها بالحلول، ربما يكفي ويكون نقطة تحول في حياتنا العامة ودافعا حقيقيا لإعادة الأردنيين إلى طبيعتهم التي أسسوا عليها دولتهم قبل 100 عام. أليس كذلك؟

غيث القضاة يكتب: بين خطاب المعارضة وإكراهات الدولة

غيث القضاة يكتب: بين خطاب المعارضة وإكراهات الدولة

أن تبادر شخصية بوزن أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي السابق وصاحب نظرية تصفير الخلافات والدبلوماسية المتناغمة ليقدم نصيحة مغلفة بالخطاب الشعبي إلى أردوغان أثناء عقد مؤتمر لحزبه المعارض في الأسبوع الفائت، هو أفضل تعبير عن سقف الخطاب السياسي الذي يسع المعارضة ولا يسع الدولة. 

موقف أوغلو أنموذجا بين 2014 واليوم

فأوغلو يقول تعال أعلمك كيف تنصر غزة يا أردوغان! فالرئيس الحقيقي القوي لا يطلب من الآخرين أي طلبات بل يمارس دوره في فرض رأيه وإصدار الأوامر؛ فعليك أن تأمر نتنياهو وتقول له: أنا وريث صلاح الدين ووريث سليمان القانوني وحامل رسالة السلطان عبد الحميد، سأقطع التجارة معكم وسأغلق سماء بلادي في وجه أي طائرات تدعمكم، وسأرسل مساعدات لغزة بنفسي، وسأمطرها بمروحياتي كالطير الأبابيل، فهكذا تعطى الأوامر من الدول القوية، وليس كما تفعل الآن يا أردوغان! يعقب ذلك تصفيق حار من الحضور كافة؛ فالخطاب قوي والكلمات مؤثرة والقضية حساسة، وهو الذي يدرك أن الاستثمار الشعبي في قضية غزة سيعطيه زخما شعبويا عظيما بعيدا عما كان يتقنه من دبلوماسية وخطاب سياسي مرن معتدل جدا أثناء وجوده في الدولة. 

عندما كان وزيرا للخارجية كان موقف أوغلو عند شن أي هجوم على غزة كما حصل في 2014 لا يتعدى ولا يتجاوز الوساطة السياسية ومحاولة تهدئة الأوضاع وزيارة الدول العربية ذات العلاقة من أجل بذل الجهود الدبلوماسية لتهدئة الأوضاع والوصول إلى صيغة لوقف إطلاق النار، ولم نسمع منه خلال سنوات توليه العمل الحكومي أي خطابات نارية تجاه “إسرائيل” بهذا الوزن وبهذا الحجم، بل كانت تركيا في عهده وما زالت تمارس سياسة مزدوجة ومتناقضة تتعلق بطبيعة علاقتها مع “إسرائيل”؛ فعلى الجانب الشعبوي كانت هنالك تعبئة شعبية من الحكومة تجاه العدو حيث تمثل ذلك مثلا في أكثر المسلسلات التركية الدرامية شهرة “وادي الذئاب” الذي كان يظهر الدولة التركية واستخباراتها وكأنها في صراع عميق مع “إسرائيل” والولايات المتحدة والغرب، وعلى الجانب الرسمي كانت العلاقات التجارية بين البلدين تبنى بقوة حتى أصبحت في أفضل حالاتها وفي تطور ونمو مستمر غير متأثرة بالخطاب الموجه للداخل! حتى بعد واقعة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فالداخل يطربه ما لا يطرب الخارج. 

حسابات الدولة مختلفة 

دعونا نعترف أن للدولة إكراهات، وأن للدولة حسابات تحسب أحيانا بميزان الذهب، فهذا أمر طبيعي لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، فمن أراد العمل بالسياسة عليه أولا أن يدرك ذلك جيدا ثم أن يفهم مساحات العمل السياسي المتاحة له، وفي الشأن الأردني وعلى وقع ما يحدث في غزة، فإن الأردن بلا شك يعيش في جيوبوليتك معقد ومتشابك جعلته يتصرف بحذر دبلوماسي وبسقف سياسي محدد يدركه صانع القرار ويعمل من خلاله؛ فيحاول قدر الإمكان اقتناص الفرص لمحاولة رفع السقف السياسي بالتصريحات تارة وبالتهديد المرن تارة أخرى وبمحاولة تفكيك المنظومة الدولية المتعاطفة مع العدو وحشد الطاقات وإقناع الدول المؤثرة بضرورة التحرك الإنساني لوقف هذه المجازر الدموية تارة ثالثة. 

غير أن إكراهات الدولة تنقسم إلى قسمين رئيسين، فبعض هذه الإكراهات يكون جبرا وغصبا وقسرا ولا طاقة للدولة فيه، وهذا يفهمه السياسي الحاذق ويتعامل من خلاله مع جميع المعطيات ويحاول بكل دهاء أن يقتنص الفرص ليكسب جولة هنا أو جولة هناك وقد لا تدرك المعارضة ذلك ولابأس في أن تبقى المعارضة تقف في مربعها لتتحدث بسقف سياسي لا يسعها لو كانت في قيادة الدولة ولا بأس أن تهتف في مسيراتها بما شاءت وأن تطالب بما شاءت من مطالب وعلى الحكومة أن تتحملها وأن تتفهم “تهور” المعارضة، غير أن بعض هذه الإكراهات في الدولة يكون مكتسبا بسبب سوء التخطيط أو سوء الإدارة أو سوء النية والقصد أحيانا، فلا يمكن لنا أن نتصور أن الأردن الذي استطاع أن يتحرك دبلوماسيا وبقوة في اتجاهات متعددة وأن يصف دولة الاحتلال بأبشع الأوصاف والذي استطاع أن يستميل الرأي العالمي في حدود المستطاع تجاه عدالة القضية الفلسطينية، يعجز عن قول كلمته على أرض الواقع في قضية إجرائية تتعلق باتفاقية مرور البضائع والخضار إلى “إسرائيل” تلك القادمة من الدول العربية أو تلك التي يتم تصديرها من الأردن لهم. 

من الذي يقف وراء إظهار عجز الأردن في جزئية تصدير الخضار؟

فأي قوة تمتلكها تلك الاتفاقيات والتي تفوق قوة الأردن الدبلوماسية لتجعله عاجزا عن فعل شيء تجاه هذه القضية الحساسة في مثل هذا الظرف الخطير؟ ومن هم هؤلاء الذين استطاعوا إرهاق الدولة بهكذا اتفاقيات لا يمكن معها وقف التصدير أو التظاهر بالسعي إلى إيقافه؟ وأي نفوذ يمتلكون وأي قوة مؤثرة يستخدمون! ثم كيف سنفهم تصريح دولة الرئيس الذي كان يؤكد بأن المعاهدة على الرفوف يعلوها التراب والغبار! ما هي هذه القوة التي تمتلكها تلك الفئة الباغية التي تستطيع أن تبقي الاتفاقيات والتي هي فرع من المعاهدة تعمل بكفاءة عالية في هذا الظرف الإنساني غير المسبوق وتتجاوز بقوتها على أرض الواقع تصريحات رئيس الحكومة وكيف يسمح لها أن تجعل الغبار والأتربة فوق تصريحات رئيس الحكومة؟ 

ضيق أفق البعض أظهر الأردن بموقف العاجز

نعم للدولة إكراهات، لكن المؤلم هو العجز المكتسب الذي تكتسبه الدولة أحيانا بسبب فئة قليلة أرهقت الدولة بضيق أفقها السياسي أو بسبب التطلع إلى المنافع الشخصية متناسية الوطن ومصلحته، أو بسبب القيود التي قيدوا فيها الوطن عبر اتفاقيات أو تفاهمات لا نسمع بها إنما نرى نحن كمحللين سياسيين آثارها على أرض الواقع، فكيف نفهم انطلاقا من ذلك تصريحات وزارة التربية التي صرحت بها قبل يومين بخصوص المناهج حيث تمت إزالة الفقرة التي تطرقت إلى “7 أكتوبر” من الطبعة الثانية بعد أن تم توزيع الطبعة الأولى من كتاب التربية الوطنية على طلاب الصف العاشر، فهل استكثر علينا القوم أن تتم الإشارة والتذكير بلحظة تاريخية مفصلية وهامة من لحظات الصراع مع هذا العدو المحتل وأن تبقى في مناهج أبنائنا من أجل الذكرى فقط؟ أم أن هذا جزءا من التفاهمات والاتفاقيات التي لا نعرف من كتب نصوصها وتحت أي تأثير كان ولصالح من يخطط ويعمل ويفكر ويقرر! 

أخيرا، سأل صحفي بريطاني ذات مرة الملك عبد الله الأول رحمه الله سؤالا خبيثا عن عدد الطائرات العسكرية التي يمتلكها الأردن في ذلك وقت الوقت، فأجاب الملك بدهاء، أننا وبريطانيا نمتلك 104 طائرات؛ كان الأردن حينها يمتلك أربع طائرات فقط وتمتلك بريطانيا المئة الأخرى، في إجابة سياسية ذكية نعرف من خلالها كيف يقدر السياسي الموقف، لكن مما لا شك فيه أن إكراهات الدولة إن كانت في سياقها الإقليمي أو العالمي يمكن إدراكها ويمكن فهمها ولا بد من التعامل معها وعدم القفز إلى مساحات مثالية أو خيالات سياسية دون اعتبارها، أما أن نصنع العجز والضعف بأيدينا وإرادتنا فهذا معيب بحقنا ولا يليق بنا، وما أحوجنا إلى قيادات سياسية واعية تدرك ذلك من أجل نيل ثقة المواطن وتعزيز الإيمان بالوطن وتحصين مشروع الدولة وتحصين البناء الديمقراطي؛ لأن خطورة عدم الثقة بمشروع الدولة سيجعل أي مشروع لها موضعا دائما للتساؤل والشك.

محمد أبو رمان يكتب: الأردن والابتعاد عن “لعبة الهويات”

محمد أبو رمان يكتب: الأردن والابتعاد عن “لعبة الهويات”

طفت على السطح في الأشهر القليلة الماضية نقاشات واتجاهات عُصابية غير مبرّرة لن تأتي إلّا بثمار ضارّة على المعادلة الداخلية الأردنية، بخاصة عندما يصبح تصنيف المواطنين والناس على قاعدة “الهويّات الفرعية” الداخلية، ويجري توظيف قصة الهوية في عملية تراشق عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتوزيع الاتهامات والتخوين هنا أو هناك من الأطراف المختلفة.

لا يمكن تجاهل التعدّد والتنوع في وجهات النظر تجاه قضايا عديدة متعلقة بالحرب على غزّة والموقف الأردني، لكنها تبقى (بالمناسبة) خلافات جزئية بسيطة، فلا يوجد في النقاش العام الأردني من يؤيد العدوان الإسرائيلي أو لا يتعاطف مع أهل غزّة، فهذا شعور جمعي وطني يصل إلى درجة الإجماع الكامل، وهو أمر طبيعي للمجتمع الأردني الذي تنغل فيه المشاعر القومية والإسلامية والوطنية، وتعتبر القضية الفلسطينية مسألة داخلية وأساسية لدى الغالبية العظمى من الأردنيين.

أين تكمن الخلافات؟ في مسائل فرعية متعلقة بالموقف من اعتصاماتٍ في أماكن معينة، من الحدود المفترض أن يصل إليها أو يقف عندها الموقف الأردني الرسمي في مواجهة العدوان الإسرائيلي في غزّة؟ في طبيعة الشعارات والهتافات والنقاشات المتبادلة؟ ولدى بعض الجهات والقوى السياسية في مسألة التداخل والربط بين الملفين، الإقليمي والداخلي، في ما يتعلق بالإسلام السياسي، أي حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، التي تمثّل قوة المعارضة الكبرى في البلاد.

هذه خلافات جزئية محدودة، من المفترض أن نعمل جميعاً على احتوائها وعدم إعطائها أكبر من حجمها، مقارنةً أولاً بحجم التوافق والاتفاق على الثوابت والأسس المتعلقة بالموقف الأردني والمصالح الوطنية الأردنية في ما يتعلق بالحرب على غزّة. وثانياً بمواجهة التهديدات الإقليمية والإسرائيلية ضد الأردن، وهي التي تتطلب، بدلاً من التناحر وزيادة مساحة الخلافات وتعظيمها، تعزيز الجبهة الداخلية وتصليبها والاتفاق بين الأطراف السياسية المختلفة على القاعدة الكبرى الصلبة المفترض أن يقف عليها الأردنيون.

من أخطر الأمور التي يمكن اللعب عليها أو التلاعب بها أو توظيفها، سياسات الهوية وتحطيم الجبهة الداخلية، لأنّه في حالٍ كهذه لن يكون هنالك أيّ مستفيد، وسيكون صوت العقل والمنطق متوارياً خجولاً أمام أصوات الغريزة والعاطفة والتجييش، ولعلّ نظرة سريعة إلى المنطقة المحيطة بالأردن ستؤشر لنا على خطورة هذا الموضوع، فالعدو الخارجي أو الاختراق والهيمنة من الآخرين على أيٍّ من الدول المحيطة: العراق، سورية، لبنان، السودان، اليمن… كلها لا تأتي إلّا بعد أن يكون هنالك عوامل داخلية تمهّد الطريق لذلك، وشعب منقسم على نفسه، وقوى تستخدم الهويات لتسويق أجندات أو مصالح شخصية أو فئوية عبر أسهل وأسرع طريقة لحشد الشارع وتوفير شمّاعات لتحميلها مسؤوليات الفشل أو تعزيز أزمة الثقة بين هذا الطرف أو ذاك.

المصلحة الاستراتيجية والأمن الوطني والسلم الداخلي كلها تدفع نحو تعزيز القواسم المشتركة والتوافقات والأهداف التي لا يكاد يختلف عليها أحد، وتحجيم الخلافات البسيطة وتصغيرها، والابتعاد عن لغة التخوين والتشكيك والتحقير؛ بل وتجريم مثل هذا الخطاب الخطير بما يخدمه من أهداف وأغراض لا تمتّ إلى المصالح الوطنية الأردنية بثقة، بل تخدم أهدافاً وأجندة خارجيتين.

من الخطأ، بل الخطيئة، أن تحاول أيٌّ من القوى السياسية الموجودة تسجيل أهداف أو تحقيق غايات سياسية من خلال الضرب على وتر هوياتي؛ أو حتى التشكيك بنيّات الأطراف الأخرى، لأنّ مسألة الثقة والحوار العقلاني والتوافقات الداخلية أسهل وأجدى بكثير من الوقوع فيما وقعت به دول محيطة من كوارث إنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عبر “لعبة الهويات” واستثارة الغرائز.

شكّل الأردن، ولا يزال، نموذجاً استثنائياً في المنطقة؛ فهو نظامٌ مستقر ثابت، يستند إلى قيم راسخة من الانفتاح والاعتدال والوسطية، والتسامح السياسي، وتمثّل علامة تجارية – سياسية تميّز هذا النموذج، وتمكّن الأردن من تجاوز العواصف التاريخية الكبيرة والصمود والعبور، بينما كان كثيرون يتخبطون. لذلك، من الضروري أن يكون هنالك تأطير صحيح ودقيق لحجم الخلافات أو المشكلات أو الأزمات التي يواجهها، والتعامل معها بما يخدم المصالح الوطنية والأرضية المشتركة، لا العكس.