الفلسطينيون باتوا، كما تشير أرقام الاستطلاع، أكثر تأييداً وحماسة لخيار المقاومة المسلحة. اثنان من كل ثلاثة يدعمان هذا الخيار، وهذا تطور لافت في “المزاج الشعبي العام” يعود إلى عوامل عدة.
للمرة الثالثة خلال أشهر الحرب التسعة على غزة، يجيب الشعب الفلسطيني عن أسئلة المرجفين والمرتجفين، الشكّائين والمشككين، بما يقطع الشك باليقين. وبدلاً من الغرق في فوضى الاجتهادات والنبوءات، المخلصة منها والخبيثة، يتعين على كل من يريد قياس “نبض الشارع” الفلسطيني والتعرف إلى “مؤشراته الحيوية” أن يصغي إلى ما يقوله الشعب، لا إلى ما يقال عنه، وتحديداً عبر قنوات الإعلام الأسود المكرسة لخدمة الرواية الصهيونية، والمروجة لكل مشاعر اليأس والإحباط والهزيمة.
للمرة الثالثة، يقول الشعب الفلسطيني كلمته في السابع من أكتوبر. اثنان من كل ثلاثة فلسطينيين يريانه يوماً مجيداً أعاد إلى القضية الفلسطينية ألقها بعد طول غياب وتغييب. لا مطرح لمشاعر الندم، ولا مكان للأصوات التي تحاول أن تنسب إلى هذا الشعب ما ليس فيه… بعد تسعة أشهر من أعنف حملات التطهير والتطويق والإبادة، يعتقد 80% من الفلسطينيين بأن “الطوفان” أعاد قضيتهم الوطنية إلى صدارة جداول الأعمال والاهتمامات الدولية، وذلك كان هدفاً مركزياً لمن قرر وخطط ونفذ السابع من أكتوبر وأدار حرب الطوفان بكل كفاءة واقتدار.
ما لم تقله أسئلة الاستطلاع الثالث الذي نفذه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن “الطوفان” أضاف قضية الشعب الفلسطيني إلى قائمة أولويات الحملات الانتخابية في معظم دول الغرب، بمن فيها الولايات المتحدة، وأحالها لأول مرة في تاريخها -ربما- إلى “قضية داخلية” تدخل في حسابات السياسيين وأحزابهم المتنافسة… هذا تطور غير مسبوق.
حملات الشيطنة والتشويه لحماس وكتائب القسام والمقاومة لم تجد طريقها إلى عقول الفلسطينيين وقلوبهم وضمائرهم، برغم كثافة الضخ الإعلامي الأسود وانخراط رموز وأسماء من سلطة رام الله في حملات التشويه والشيطنة والتشكيك والاتهام… 90% من الفلسطينيين لم يشتروا هذه البضاعة الفاسدة. ارتفعت شعبية حماس وخيار المقاومة، وسخر الفلسطينيون من “حكاية” جرائم الاغتصاب وتقطيع رؤوس الأطفال المنسوبة إلى المقاومين، وهي على أي حال رواية آخذة في التهافت في “بلدان المنشأ”، بعدما فضحت التحقيقات الصحافية والحقوقية المتخصصة بؤسها وكذبها.
الفلسطينيون، بمن فيهم الغزّيون، الذين فقدت 60% من عائلاتهم أحد أفرادها، شهيداً أو جريحاً، يواكبون الأداء السياسي لمقاومتهم، ويثقون بقدرتها على إدارة المفاوضات، وأكثر من ثلثيهم أعربوا عن تأييدهم قرار حماس القبول بمبادرات وقف النار التي تستبطن وقف الحرب وسحب قوات الاحتلال وإدخال المساعدات وعودة النازحين وتبادل الأسرى… أكثر من نصف سكان غزة يتوقعون عودة حماس إلى حكم القطاع، وثلثا الشعب يرون أن المقاومة هي المنتصرة في نهاية المطاف، وأكثر من نصف أهل غزة وثلثي الشعب يؤيدون خيار عودة المقاومة إلى حكم غزة، لا السلطة ولا البدائل ولا “التركيبات الهجينة” لسلطة عربية – إقليمية متساوقة مع مشاريع “رسل الموت” الأميركيين، من بلينكن إلى سوليفان، مروراً ببيرنز وأوستن.
الفلسطينيون باتوا، كما تشير أرقام الاستطلاع، أكثر تأييداً وحماسة لخيار المقاومة المسلحة. اثنان من كل ثلاثة يدعمان هذا الخيار، وهذا تطور لافت في “المزاج الشعبي العام” يعود إلى عوامل عدة.
الأول؛ كفر الشعب الفلسطيني بنجاعة “الآليات الدولية” لحل الصراع، فرغم الترحيب بما يجري في محكمتي لاهاي وما يصدر عن مجلس الأمن، فإن نسبة محدودة فقط تثق بأن قرارات المحاكم والمجالس الدولية يمكن أن تفضي إلى نتيجة. أضف إلى ذلك “كفر” الفلسطينيين بالمواقف الرسمية العربية وقدرة “اللا-نظام العربي” على تقديم خشبة خلاص لهم، بعدما عجز هذا النظام عن تقديم حبة الدواء ولقمة العيش وشربة الماء.
الثاني؛ انهيار الثقة بمسارات الحلول التفاوضية، من أوسلو وما قبله وما بعده، وتآكل القناعة بحل الدولتين إلى ما دون الثلث، فقد سُدّت سبل الحلول السياسية أمام الفلسطينيين، ولم يبق لهم سوى خيارهم الأول الذي ميّز انطلاقة ثورتهم المعاصرة: الكفاح المسلح، قبل أن تتخلى فصائل رئيسة عنه، إثر الدخول في دهاليز مدريد – أوسلو وما بعدهما من محطات خاوية.
الثالث؛ لأول مرة يكتشف الفلسطيني بنفسه، ويرى رأي العين الأثر الفاعل والكبير لمقاومته المسلحة في خلخلة أركان كيان العدو وزلزلته. لأول مرة، تستحدث مقاومة الشعب الفلسطيني وإسناد جبهات الإسناد مثل هذا الأثر وبهذا الحجم… القناعة تتكرس بأن هزيمة إسرائيل باتت أمراً ممكناً، والثقة تزداد بقدرة المقاتل الفلسطيني والعربي على رد الصاع صاعين، فلم تعد المقاومة فعلاً “رمزياً” ينهض كدلالة على الرفض والممانعة، بل صارت معول هدم لنظريات الردع وصورة الجيش الذي لا يقهر وكل منظومة “الأمن القومي” الإسرائيلية.
تتظهّر كما لم يحدث من قبل خيارات الشعب الفلسطيني وتفضيلاته الكبرى. درجة الرضا عن أداء المقاومة وقيادتها (السنوار) في ارتفاع لا يوازيه سوى هبوط حاد في شعبية القيادة في رام الله، فتسعة من كل عشرة فلسطينيين يطالبون رئيسهم بالاستقالة، و75-80 منهم لا يوافقون على خطاب عباس في قمة المنامة، سواء لجهة تحميل حماس وزر “توفير ذرائع للعدو” أو لجهة تحميلها المسؤولية عن انسداد مسار المصالحة، وثلاثة أرباعهم لا يرون جديداً ولا إصلاحاً مع حكومة محمد مصطفى… والأهم من كل هذا وذاك أن شعبية فصائل المقاومة في تزايد، وتتزايد معها الثقة بأهليتها لحكم غزة وفلسطين.
وتتظهّر كذلك رؤية الشعب الفلسطيني لمن يقفون معه بالدم والنار، ومن يكتفون بالدعم الإنساني والسياسي، ومن يتآمرون ويتواطأون… اليمن – أنصار الله حل أولاً، يليه حزب الله، ثم قطر وإيران، تليهم مصر والأردن، بمسافة واضحة. أما التطبيع السعودي – الإسرائيلي، فمرفوض من ثلاثة أرباع شعب فلسطين.
لم يحدث في التاريخ ما حدث في غزة خلال الأشهر التسعة الفائتة، لكن البيئة الحاضنة للمقاومة ما زالت على انحيازاتها الكبرى، برغم الألم والنزيف، وإن كانت أرقام غزة قد سجلت انخفاضاً نسبياً عن أرقام الضفة الغربية من جراء هول الكارثة في كل أبعادها، فهذا أمرٌ طبيعي ومفهوم، إلا أن الكتلة الحرجة من أهل غزة ما زالت ممسكة بخياراتها، ولم تغرد خارج السرب الوطني الفلسطيني المقاوم، برغم الاستهداف المنهجي المنظم لهذه البيئة لفصلها عن مقاوميها.
وبعد 9 أشهر من الحرب، تبدو المقاومة، خياراً وفصائل وقادة وإدارة للميدان والسياسة، في مكانة يتمنى أعداؤها لو أن لهم مثلها في مجتمعاتهم. تكفي مقارنة بسيطة بين ما يعانيه نتنياهو والمستوى السياسي الإسرائيلي من انقسامات وعزلة وانعدام ثقة وتخبط وما تحظى به المقاومة من دعم وثقة وإسناد، حتى تتضح معالم المرحلة المقبلة، وتتبين لنا خيوطها السوداء من خيوطها البيضاء… ولسنا نبالغ أو نتطيّر إن قلنا إن على العالم النظر إلى “إسرائيل ما بعد الحرب” وليس إلى غزة ما بعدها.