بداية أرجو معذرتي في هذا المقال القصير الذي يحمل فكرة واحدة فقط، لكنني شعرت أنها فكرة عظيمة لا بد من الإشارة إليها دون إطالة أو تكرار، فالقصة تتكلم عن نفسها وفي مضمونها العشرات من الرسائل الهامة.
قصة رفض مجلس أمناء الجامعة الأردنية طلبا للملك الحسين
التقيت اليوم بمعالي محيي الدين توق على هامش لقاء سياسي، فقصّ علينا قصة جميلة قد رواها له المرحوم الدكتور عبد السلام المجالي، ذلك أنه في عام 1964، أي بعد تأسيس الجامعة الأردنية بسنتين، أرسل الملك الحسين رحمه الله من ديوانه إلى مجلس أمناء الجامعة الأردنية يطلب فيها منهم الموافقة على قبول طالبة عربية، وهي ابنة أحد أصدقاء الملك، في تخصص معين داخل الجامعة الأردنية، فاجتمع مجلس الأمناء وكان يرأسه حينها سمير الرفاعي، وعندما نظروا في معدلها في المرحلة الثانوية وجدوا أنه لا يتناسب مع معايير القبول في الجامعة في تلك الفترة.
قرر مجلس العمداء الاعتذار للملك لعدم انطباق شروط القبول على الطالبة في الجامعة الأردنية، فأرسلوا له رسالة بالاعتذار سلمها المجالي شخصيا، وقال له: “يا سيدي أنا محرج منك جدا ولا أستطيع أن أرفض لك طلبا لكنه قرار مجلس العمداء بالرفض”، فتقبل الملك ذلك بكل رحابة صدر وشكرهم على موقفهم، وقام بإرسال الطالبة للدراسة في المغرب على حسابه الشخصي، تخيلوا معي الموقف؛ ملك البلاد يطلب شخصيا أن يتم قبول طالبة في الجامعة الأردنية ويرفض مجلس العمداء ذلك؟ نعم هذه القصة حصلت في الأردن.
أين النخب الأردنية؟
كان حديثنا عن غياب “النُخب الأردنية” أين ذهبت النخب السياسية المرموقة؟ لماذا تم تجريف بعضها؟ ولماذا تم تحجيم بعضها الآخر؟ ثم لماذا لم نعد قادرين على صناعة وإنتاج نُخب جديدة متميزة؟ ما هي المعايير والمُقاربات الجديدة التي أدت إلى ذلك الأفول وهذا الغياب، أين أولئك الذين يستطيعون أن يقولوا (لا) إذا شعروا أن مصلحة البلد ومصلحة الدولة في هذا الرفض؟
ليس غريبا أن أعود بالذاكرة إلى المرحوم وصفي التل، الذي أحبه الحسين لصفات شخصية عديدة فيه عندما كان رئيسا للوزراء؛ ذلك أنه كان صاحب رأي وصاحب منطق ناقد وشخصية قوية، ولا يخشى من أن يقول (لا) إذا رأى أن المصلحة فيها، كان وصفي التل مقتنعا أن مركز العالم العربي يجب أن يكون في بلاد الشام وليس في القاهرة كما يريد عبد الناصر، كان وصفي يقف أمام عبد الناصر وأمام شخصيته الطاغية حينها ويقف ضده في العديد من المفاصل السياسية الهامة ويقول له رأيا يخالف رأيه في الوقت الذي كانت فيه “النخب” العربية تخشاه وتخاف منه وترتعب! وما زلنا حتى اللحظة نتذكر وصفي ونستحضر تلك الأغنية الحزينة “يا مهدبات الهدب، غنن على وصفي”.
اختفى وصفي، واختفت في الأردن تلك النُخب الناصحة الجريئة وحلت محلها نُخب مُصنعة بعيوب وأخطاء مصنعية فادحة “وعلت ظهور خير المطايا، شر فرسانِ”، تلك النخب المهترئة التي تفكر مرحليا إما بمصالحها أو مكاسبها أو بمقارباتها المختلفة، ويبدو لي كما يقول أحد الأصدقاء عنهم، أن من لم يتم شراء “صوته” تم شراء “صمته”!