غيث القضاة يكتب: بين خطاب المعارضة وإكراهات الدولة

أن تبادر شخصية بوزن أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي السابق وصاحب نظرية تصفير الخلافات والدبلوماسية المتناغمة ليقدم نصيحة مغلفة بالخطاب الشعبي إلى أردوغان أثناء عقد مؤتمر لحزبه المعارض في الأسبوع الفائت، هو أفضل تعبير عن سقف الخطاب السياسي الذي يسع المعارضة ولا يسع الدولة. 

موقف أوغلو أنموذجا بين 2014 واليوم

فأوغلو يقول تعال أعلمك كيف تنصر غزة يا أردوغان! فالرئيس الحقيقي القوي لا يطلب من الآخرين أي طلبات بل يمارس دوره في فرض رأيه وإصدار الأوامر؛ فعليك أن تأمر نتنياهو وتقول له: أنا وريث صلاح الدين ووريث سليمان القانوني وحامل رسالة السلطان عبد الحميد، سأقطع التجارة معكم وسأغلق سماء بلادي في وجه أي طائرات تدعمكم، وسأرسل مساعدات لغزة بنفسي، وسأمطرها بمروحياتي كالطير الأبابيل، فهكذا تعطى الأوامر من الدول القوية، وليس كما تفعل الآن يا أردوغان! يعقب ذلك تصفيق حار من الحضور كافة؛ فالخطاب قوي والكلمات مؤثرة والقضية حساسة، وهو الذي يدرك أن الاستثمار الشعبي في قضية غزة سيعطيه زخما شعبويا عظيما بعيدا عما كان يتقنه من دبلوماسية وخطاب سياسي مرن معتدل جدا أثناء وجوده في الدولة. 

عندما كان وزيرا للخارجية كان موقف أوغلو عند شن أي هجوم على غزة كما حصل في 2014 لا يتعدى ولا يتجاوز الوساطة السياسية ومحاولة تهدئة الأوضاع وزيارة الدول العربية ذات العلاقة من أجل بذل الجهود الدبلوماسية لتهدئة الأوضاع والوصول إلى صيغة لوقف إطلاق النار، ولم نسمع منه خلال سنوات توليه العمل الحكومي أي خطابات نارية تجاه “إسرائيل” بهذا الوزن وبهذا الحجم، بل كانت تركيا في عهده وما زالت تمارس سياسة مزدوجة ومتناقضة تتعلق بطبيعة علاقتها مع “إسرائيل”؛ فعلى الجانب الشعبوي كانت هنالك تعبئة شعبية من الحكومة تجاه العدو حيث تمثل ذلك مثلا في أكثر المسلسلات التركية الدرامية شهرة “وادي الذئاب” الذي كان يظهر الدولة التركية واستخباراتها وكأنها في صراع عميق مع “إسرائيل” والولايات المتحدة والغرب، وعلى الجانب الرسمي كانت العلاقات التجارية بين البلدين تبنى بقوة حتى أصبحت في أفضل حالاتها وفي تطور ونمو مستمر غير متأثرة بالخطاب الموجه للداخل! حتى بعد واقعة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فالداخل يطربه ما لا يطرب الخارج. 

حسابات الدولة مختلفة 

دعونا نعترف أن للدولة إكراهات، وأن للدولة حسابات تحسب أحيانا بميزان الذهب، فهذا أمر طبيعي لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، فمن أراد العمل بالسياسة عليه أولا أن يدرك ذلك جيدا ثم أن يفهم مساحات العمل السياسي المتاحة له، وفي الشأن الأردني وعلى وقع ما يحدث في غزة، فإن الأردن بلا شك يعيش في جيوبوليتك معقد ومتشابك جعلته يتصرف بحذر دبلوماسي وبسقف سياسي محدد يدركه صانع القرار ويعمل من خلاله؛ فيحاول قدر الإمكان اقتناص الفرص لمحاولة رفع السقف السياسي بالتصريحات تارة وبالتهديد المرن تارة أخرى وبمحاولة تفكيك المنظومة الدولية المتعاطفة مع العدو وحشد الطاقات وإقناع الدول المؤثرة بضرورة التحرك الإنساني لوقف هذه المجازر الدموية تارة ثالثة. 

غير أن إكراهات الدولة تنقسم إلى قسمين رئيسين، فبعض هذه الإكراهات يكون جبرا وغصبا وقسرا ولا طاقة للدولة فيه، وهذا يفهمه السياسي الحاذق ويتعامل من خلاله مع جميع المعطيات ويحاول بكل دهاء أن يقتنص الفرص ليكسب جولة هنا أو جولة هناك وقد لا تدرك المعارضة ذلك ولابأس في أن تبقى المعارضة تقف في مربعها لتتحدث بسقف سياسي لا يسعها لو كانت في قيادة الدولة ولا بأس أن تهتف في مسيراتها بما شاءت وأن تطالب بما شاءت من مطالب وعلى الحكومة أن تتحملها وأن تتفهم “تهور” المعارضة، غير أن بعض هذه الإكراهات في الدولة يكون مكتسبا بسبب سوء التخطيط أو سوء الإدارة أو سوء النية والقصد أحيانا، فلا يمكن لنا أن نتصور أن الأردن الذي استطاع أن يتحرك دبلوماسيا وبقوة في اتجاهات متعددة وأن يصف دولة الاحتلال بأبشع الأوصاف والذي استطاع أن يستميل الرأي العالمي في حدود المستطاع تجاه عدالة القضية الفلسطينية، يعجز عن قول كلمته على أرض الواقع في قضية إجرائية تتعلق باتفاقية مرور البضائع والخضار إلى “إسرائيل” تلك القادمة من الدول العربية أو تلك التي يتم تصديرها من الأردن لهم. 

من الذي يقف وراء إظهار عجز الأردن في جزئية تصدير الخضار؟

فأي قوة تمتلكها تلك الاتفاقيات والتي تفوق قوة الأردن الدبلوماسية لتجعله عاجزا عن فعل شيء تجاه هذه القضية الحساسة في مثل هذا الظرف الخطير؟ ومن هم هؤلاء الذين استطاعوا إرهاق الدولة بهكذا اتفاقيات لا يمكن معها وقف التصدير أو التظاهر بالسعي إلى إيقافه؟ وأي نفوذ يمتلكون وأي قوة مؤثرة يستخدمون! ثم كيف سنفهم تصريح دولة الرئيس الذي كان يؤكد بأن المعاهدة على الرفوف يعلوها التراب والغبار! ما هي هذه القوة التي تمتلكها تلك الفئة الباغية التي تستطيع أن تبقي الاتفاقيات والتي هي فرع من المعاهدة تعمل بكفاءة عالية في هذا الظرف الإنساني غير المسبوق وتتجاوز بقوتها على أرض الواقع تصريحات رئيس الحكومة وكيف يسمح لها أن تجعل الغبار والأتربة فوق تصريحات رئيس الحكومة؟ 

ضيق أفق البعض أظهر الأردن بموقف العاجز

نعم للدولة إكراهات، لكن المؤلم هو العجز المكتسب الذي تكتسبه الدولة أحيانا بسبب فئة قليلة أرهقت الدولة بضيق أفقها السياسي أو بسبب التطلع إلى المنافع الشخصية متناسية الوطن ومصلحته، أو بسبب القيود التي قيدوا فيها الوطن عبر اتفاقيات أو تفاهمات لا نسمع بها إنما نرى نحن كمحللين سياسيين آثارها على أرض الواقع، فكيف نفهم انطلاقا من ذلك تصريحات وزارة التربية التي صرحت بها قبل يومين بخصوص المناهج حيث تمت إزالة الفقرة التي تطرقت إلى “7 أكتوبر” من الطبعة الثانية بعد أن تم توزيع الطبعة الأولى من كتاب التربية الوطنية على طلاب الصف العاشر، فهل استكثر علينا القوم أن تتم الإشارة والتذكير بلحظة تاريخية مفصلية وهامة من لحظات الصراع مع هذا العدو المحتل وأن تبقى في مناهج أبنائنا من أجل الذكرى فقط؟ أم أن هذا جزءا من التفاهمات والاتفاقيات التي لا نعرف من كتب نصوصها وتحت أي تأثير كان ولصالح من يخطط ويعمل ويفكر ويقرر! 

أخيرا، سأل صحفي بريطاني ذات مرة الملك عبد الله الأول رحمه الله سؤالا خبيثا عن عدد الطائرات العسكرية التي يمتلكها الأردن في ذلك وقت الوقت، فأجاب الملك بدهاء، أننا وبريطانيا نمتلك 104 طائرات؛ كان الأردن حينها يمتلك أربع طائرات فقط وتمتلك بريطانيا المئة الأخرى، في إجابة سياسية ذكية نعرف من خلالها كيف يقدر السياسي الموقف، لكن مما لا شك فيه أن إكراهات الدولة إن كانت في سياقها الإقليمي أو العالمي يمكن إدراكها ويمكن فهمها ولا بد من التعامل معها وعدم القفز إلى مساحات مثالية أو خيالات سياسية دون اعتبارها، أما أن نصنع العجز والضعف بأيدينا وإرادتنا فهذا معيب بحقنا ولا يليق بنا، وما أحوجنا إلى قيادات سياسية واعية تدرك ذلك من أجل نيل ثقة المواطن وتعزيز الإيمان بالوطن وتحصين مشروع الدولة وتحصين البناء الديمقراطي؛ لأن خطورة عدم الثقة بمشروع الدولة سيجعل أي مشروع لها موضعا دائما للتساؤل والشك.

إقرأ المزيد من المقالات